في رثاء فارس الحركة الحقوقية المصرية محمد السيد سعيد

مناضل بدرجة مقاتل وفارس من فرسان الحركة الحقوقية المصرية انه محمد السيد سعيد الكاتب والصحفي والمفكر والحقوقي الذي خسرناه في اكتوبر 2009 وبكته كل الاطياف السياسية المصرية علي اختلافها ولا عجب فقد كانوا دائما ما يطلقون عليه " يساري بين الليبراليين وليبرالي بين اليساريين " لقد احترمه الجميع رغم اختلافهم معه حاولوا ان يبحثوا في كل هذا النقاء وهذا الاخلاص للفكرة عن شبهة ادعاء او زيف او تملق وعندما فشلوا لم يملكوا الا ان ينحنوا حبا واحتراما لهذه القامة الوطنية التي انارت الطريق لاجيال قادمة وبقيت نبراسا للباحثين عن قيم الاخلاص للفكرة وعشق الوطن حين يتجاوز كل الحدود... صدق حلم الثورة وعاش مناضلا من اجل ان يراه واقعا ملموسا ولكن القدر حرمه من رؤية تلك اللحظة فرحل قبل ان يري افكاره وقد تحولت لهتافات ترددها حناجر الثوار تزلزل اركان دولة الطغيان ... انه المقاتل محمد السيد سعيد الذي خاض معركة العبور 1973 كجندي في اشرف معارك العسكرية المصرية وخاض قبلها معركته مع النظام السياسي انذاك بجانب زملاءه من مناضلي الحركة الطلابية وبعد انت صمتت اصوات المدافع عاد سعيد ليواصل حربه الخاصة مع قوي الطغيان فكان فكره هو سلاحه وعقليته النقدية الجبارة هي جيشه الذي لا يقهر والتي لم يسخرها يوما الا لخدمة وطنه مخلصا لافكاره ومبادئه لم يسع يوما لمنصب ولا جاه او مال فكانت افكاه لعنة علي دولة الظلم وسوطا غير قابل للشراء يلهب ظهورهم دوما ويذكرهم بان لهذا الشعب فرسان يذودوا عنه في وجه دولتهم الزائلة وحتي لو مات الفارس قبل نهاية هذه المعركة فقد عاشت افكاره فينا في كل شباب الثورات في كل ميادين مصر واغلبنا لم يره _ ومنهم انا للاسف_  فكنت اشعر بارواحهم تطل علينا بالميادين .. ارواح سعيد ورفاقه ممن حلموا بتلك اللحظة كثيرا امثال الدكتور المسيري والمناضل احمد عبدالله رزة وسواهم كثير .
ولد بمدينة بورسعيد احدي قلاع النضال المصرية الشامخة في حروبها الاخيرة عام 1950 وشاهد بعيني براءة الطفولة العدوان الثلاثي وهو يدك بيوت مدينته وشاهد كذلك انتصار الارادة الشعبية واندحار الغزاة امام بسالة ابناء مدينته وحين وصل للمرحلة الثانوية شاهد قوات العدوان الاسرائيلي وهي تدك مدينته مرة اخري فنشأ ثائر الدماء لا يهادن الطغيان ابدا مهما بدا من فارق القوة بينهم .
التحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة وكان واحد من قادة حركتها الطلابية التي قامت تطالب بالثأر واسترداد الارض والعرض وتشهد اروقة تلك الجامعة العريقة علي تفتح تلك الزهرة الندية وتعطشها لنصرة الحق ولو كلفها حياتها وبعد انتهاء دراسته التحق بالجيش المصري قبل الحرب وشارك فيها جنديا يطلب النصر او الشهادة فاكرمه الله بالاولي وكتب له النجاة ليخرج بعدها ليتم تعيينه في مركز الاهرام للدراسات السياسية الاستراتيجية اثبت خلالها جدارته بالانتساب لهذا الكيان البحثي العريق سافر بعدها الي الولايات المتحدة لينال شهادة الدكتورة
عام 1983 من جامعة "نورث كارولينا" وكان موضوعها  "دراسة مقارنة لسبع تجارب للتطور في أفريقيا "
عاد سعيد الي مصر في فترت تحولات كبري فلم يخزل وطنه ودخل غمار المعركة مع دولة الطاغية وتم اعتقاله
لمدة شهر مع عدد من النشطاء الحقوقيين عام 1989، الا ان الفارس لم ينحني ورفض الدخول في حظيرة السلطة مضحيا بالمنصب والذهب في الوقت الذي كان غيره من المثقفين يلعق احذية الرئيس المخلوع وحاشيته طلبا للرضا السامي  .
محمد السيد سعيد وفجر الحركة الحقوقية المصرية:
- اسس محمد السيد سعيد مع مجموعة من النشطاء المصريين المنظمة المصرية لحقوق الانسان عام 1985 وكانت من اوائل المنابر الحقوقية المصرية التي ناضلت من اجل ارساء مبادئ حقوق الانسان في مصر وتضامنت مع المقهورين من ابناء الشعب وكان
البيان الذي صدر باسم المنظمة تضامنا مع عمال الحديد والصلب، الذين اعتصموا داخل مصنعهم في عام 1989 سبب لاعتقاله لمدة شهر ,وبعدها بسنوات وتحديدا عام 1993 شارك في تأسيس مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان احد اهم المركز المصرية العاملة في مجال الدفاع عن حقوق الانسان وعمل مستشارا علميا للمركز حتي وفاته ... لم ينسي احد بالمركز فضل هذا الرجل فاطلقوا اسمه علي احد القاعات واطلقوا كذلك برنامج تدريبي يهتم بالمواطنة وحقوق الانسان يحمل اسمه فالمركز نفسه يعتبرا تجسيدا لرؤية محمد السيد سعيد في قضايا حقوق الانسان والتي جمعت ما بين النشاط الفكري والاكاديمي الراقي والنشاط العملي في القضايا الحقوقية التي تشتبك مع حياة المواطن العادي فلا عجب اذا ان نعرف ان محمد السيد سعيد هو من وضع الوثيقة الفكرية المؤسسة للمركز واصدر من خلاله عدد من مؤلفاته منها :
1- مقدمة لفهم منظومة حقوق الانسان 1997
2- الشمولية الدينية وحقوق الانسان - حالة السودان 1998
3- رجال الاعمال :الديموقراطية وحقوق الانسان
*كما شارك في تأليف العديد من الكتب منها :
1-تحديات الحركة العربية لحقوق الانسان 1997
2- ازمة حقوق الانسان في الجزائر 1999
3- العرب بين قمع الداخل وظلم الخارج 2000
4- وطن بلا مواطنين : التعديلات الدستورية في الميزان 2007.
بالاضافة الي تأسيسه لدورية رواق عربي والتي كتب افتتاحياتها لسنوات .
نضاله السياسي وجريدة البديل :
 
- انضم سعيد للحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) المعارضة منذ بداية تأسيسها في عام 2004 ملبيا نداء الوطن وشوقه للتغير ودفع ثمن اخلاصه في طرده من جنة السلطة ويكفي ان مثل هذا القامة الكبيرة لم تكرم الا مرة واحد من الدولة حين نال جائزة الدولة للتفوق كما شارك في تأسيس جريدة البديل المستقلة عام 2007 (توقف صدورها لأسباب مالية)، التي كانت ناطقة بلسان حال اليسار المصري،الا انها لم تقصف يوم قلما حتي لو اختلف مع الاتجاه العام للجريدة, رأس تحريرها لمدة عام؛ حيث استقال في أكتوبر 2008 في زمن التمسك فيه بالكراسي موضه سائدة وكانت تجربة بحق ثرية شهد لها القاصي والداني وان كانت البديل قد توقفت فقد تركت للصحافة المصرية كتيبة صحفية من الشباب هم بحق مفخرة لمهنة الصحافة .
الفارس والطاغية :
يذكر له التاريخ حين وقف في وجه الطاغية وجها لوجه عام 2005 في معرض القاهرة الدولي للكتاب فحرمه مبارك من المشاركة في فعاليات المعرض حتي توفي ودار بينهم  هذا الحوار الذي نشرته صحيفة البديل كما يرويه المناضل والفارس د. محمد السيد سعيد إذ يقول:
بإيجاز شديد أنا طلبت الكلمة. كان ذلك بعد عدد من المثقفين البارزين. وأنا اعرف ان أجمل شيء في الرئيس مبارك انه يسمع.ولذلك طلبت أن أخذ فرصة للتعبير عن وجهة نظر مختلفة وبقدر الإمكان متكاملة في حدود الوقت المتاح. كان كلام الرئيس يدور حول السكان وارتفاع معدلات الزيادة بشكل خطير. وكان المتحدث السابق فيما اذكر الأستاذ وحيد حامد وطالب بوضع قواعد ليحصل من ينجب طفلين علي صحة وتعليم وأي طفل آخر يتحمل هو التكاليف. أنا قلت للرئيس ان موضوع السكان محسوم من الناحية العلمية. في بوخارست اجتمع العلماء تحت مظلة الأمم المتحدة وقالوا ان التنمية تحل مشكلة السكان. والتقدم يحل مشكلة السكان.لا طريقة غير التقدم والتنمية لحل مشكلة السكان. لان السكان ومعدلات الزيادة ليست مشكلة في حد ذاتها. مع معدلات تنمية مرتفعة يمكن إعادة التوازن بين الموارد والسكان. هذه النظرية اسمها العلمي الانتقال السكاني.
انا لم اقل كل هذه التفاصيل للرئيس لكنني ذكرت ان هناك نظرية علمية نوقشت في بوخارست وهنا في القاهرة في مؤتمر السكان1994 أكدت أن التنمية والتقدم هما اللذان يخفضان من معدل النمو السكاني وليس العكس.
المشكلة جاءت من أين؟! قلت للرئيس..: حضرتك تكلمت وكأننا حققنا انجازا اقتصاديا وهذا غير صحيح بالمطلق.. نحن من أقل دول العالم في الأداء الاقتصادي. وخلال15 سنة لم نتخط ابدا نسبة3.5% بينما تحقق ماليزيا8% والصين11% وكوريا من7 إلي9% وعشرات من دول أخري تحقق أرقاما فلكية. نحن لا نستطيع الانطلاق ولا كسر سقف الـ3ونصف%. لماذا؟! سألته مرة أخري. واجتهدت في إجابة.. قلت:.. هذه قصة طويلة جدا ومعقدة. لكنني سأشير إلي عامل وحيد وهو سحق كرامة المصريين. المصري في بلده مهان. ومن شهرين القي القبض علي أعداد تراوح من2000 إلي5000 مصري من أبناء العريش بعد تفجيرات طابا. هؤلاء تعرضوا للصعق بالكهرباء وأطفئت السجائر في أجسادهم. هذا يجعل المصري مقهورا في بلده وليس فخورا بها. وحضرتك شخصيا مسئول عن كرامة المصريين وفقا للدستور. المسئولية الأولي لرئيس الدولة هي كرامة المصري.
هنا علق الرئيس: كيف تقول خمسة آلاف اعتقلوا دي سينا كلها ما تجيش كلها خمستلاف.
وواصلت: عندما نقول للمصري انه فخور ببلاده لابد ان يكون هناك ما يجعله يصدق الفكرة. المصري عنصر كريم. والمصريون هم من أكثر شعوب العالم دماثة والتفزيع منهم والتخويف منهم عمل خطر. والمفتاح لهم بسيط جدا وهو ان يتعامل المصري بكرامة في مؤسسات الإدارة العامة ومن جهة جهاز الدولة وخاصة جهاز الأمن.
لماذا لا يحدث هذا يا ريس؟
سألت من جديد وقدمت إجابة.. قلت:.. لأن الدستور(دستور1971) لا يحمي الحريات العامة وحقوق الإنسان حماية كافية. نحن لا نريد تعديل الدستور. نريد دستورا جديدا اولا يحمي كرامة المصريين وحقوقهم الانسانية وحرياتهم العامة حماية صارمة.. حماية قوية. هذا ما يمكنه ان ينعش إحساس المصري بالكرامة وبالفخر ببلده...
ولماذا لا يحدث هذا يا ريس..؟
سألت.وأكملت إجابتي وقلت:.. لأن دستور1971 مبني علي فكرة الحكم المطلق. وتمت صياغته علي كيان دستوري واحد هو حضرتك شخصيا. طيب.. نحن مطمئنون لك ونقول ربما يكون هذا مناسبا لمرحلة معينة. لكن حضرتك شخصيا ألست قلقا علي مستقبل مصر عندما يأتي شخص ما يملك كل السلطات المطلقة بيده ويكون مثلا اقل رصانة أو أقل حكمة أو حتي بنصف عقل. اليس هذا سببا للقلق؟.. من اجل هذا يا ريس نحن نريد دستورا يوزع السلطات ويحقق التوازن بين السلطات وينشر السلطة ويقربها للشعب...
هنا قال الرئيس:.. هذا غير صحيح انا ليس عندي سلطات مطلقة.. الحكومة هي التي تعمل معظم الحاجات...
 قلت: علي فكرة يا ريس هذا ليس صحيحا بالمطلق أيضا.. أذا رجعنا إلي دستور1971 لا يوجد شيء اسمه الحكومة. يوجد رئيس دولة يساعده نظام وزاري. مجلس الوزراء ليس له كيان دستوري. هناك تعبير اوسع هو السلطة التنفيذية...
مرت هذه النقطة وأكملت كلامي:.. نحن لا نريد حكما مطلقا. نريد برلمانا قويا ونقابات قوية والحرية يكون لها حماية دستورية. وحضرتك تشكو من انك مش لاقي وزراء وهذه ظاهرة تسمي في المجال السياسي انكماش النخبة السياسية. وتحدث لأن قنوات المشاركة علي جميع المستويات مغلقة. نحن ليس عندنا أحزاب حقيقية ولا نقابات حقيقية ولا جمعيات أهلية حقيقية. وبالتالي لابد من دستور يفتح القنوات المغلقة. ويكون الحماية الحقيقية لمصر. وسيكون لدينا نخبة خرجت من باطن المجتمع تعرفه جيدا تتبني طموحاته وأماله..
اظن كان هذا جوهر كلامي للرئيس.
وفي أثناء الخروج من اللقاء قال الرئيس:.. ما تضيعوش البلد من أيديكم.. الذين يطالبون بالإصلاح يريدون العودة إلي ما قبل1952 عندما كانت تشكل حكومة كل6 أشهر.. هل تريدون هذا الوضع.. قلت له: يا ريس إن القضية قبل1952 أنه كان لدينا ملك يريد الاستئثار بالسلطة مما حدا به أن ينقلب سبع مرات علي الدستور والدستور الديمقراطي يكفل الاستقرار لأي بلد وعلي أي حال أنا لدي تصور عن هذا التعديل يمكنني تقديمه لسيادتك في ورقة مكتوبة عن إصلاح سياسي ودستوري.
فقال لي: الورقة دي حطها في جيبك وأنت متطرف وعلي فكرة بقي أنا بافهم أحسن منك...
كلمة النهاية :
يقينا شعرت بالعار حين علمت ان الفارس في ايامه الاخيرة وعندما بدأ وحش السرطان ينهش في خلايا جسده قد عولج في احد المركز الفرنسية المرموقة فقد اصدرت الحكومة الفرنسية قرارا بعلاجه على نفقتها اي عارا هذا ايهون الابن البار علي الوطن حتي يعالج علي نفقة وطن غريب ويتركه وطنه الذي افني عمره في خدمته
كما ترك امثاله من المخلصين مكتفي بمنح خيره للارجوزات  والمتنطعين واللصوص وعديمي الموهبة فاي وطن هذا !؟
قرر سعيد العودة إلى مصر بعد تدهور حالته الصحية قبل نحو أسبوع من وفاته مساء السبت 10 اكتوبر 2009.

لم اري محمد السيد سعيد واعتقد ان معظم ابناء جيلي كذلك فاذا كان الجسد قد مات فان الفكرة ابدا لن تموت وستظل جذوتها مشتعلة في صدور كل عشاق هذا الوطن .
     
       
                                                ***************************
هولاء رثوا الفارس :
 *عبدالرحمن يوسف يرثوا محمد السيد سعيد


* في جنازة الفارس هنا وهنا

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التطور التاريخي لحقوق الإنسان

كتاب حقوق الانسان اسئلة واجوبة

اسئلة مشروعة حول حقوق الانسان ومنظمات المجتمع المدني